قضاة تونس تعددية للهياكل ووحدة في البرامج:المعايير الدولية لاستقلال القضاء كبوابة لبناء دولة القانون.
قرر المجلس الوطني التأسيسي التونسي تخصيص لجنة تتكون من عدد من أعضائه تتكفل بإعداد مشروع الفصول الدستورية التي تتعلق بالقضاء، وتتولى بلورة تصورات لصيغ اصلاح القضاء من خلال آليات تشريعية. وقد انطلقت اللجنة التي سميت لجنة القضاء العدلي والإداري والمالي والدستوري في أعمالها بجلسات استماع شملت القضاة، علاوة على الشخصيات الوطنية التونسية التي عرفت بتخصصها في مجال القانون الدستوري، أو بنشاطها الحقوقي والسياسي ،أو تلك ذات الخبرة في مجال الفعل التأسيسي ممن ساهمت في صياغة الدستور الأول للجمهورية التونسية.
وشكل استقبال القضاة بقصر المجلس التأسيسي ودعوتهم لابداء مقترحاتهم فيما يتعلق بالنصوص الدستورية التي تؤطر السلطة التي ينتمون اليها حدثاً مميزاً أسال حبر الصحف المحلية وتداولت مجالس الحقوقيين الصخب الذي رافقه بسبب تنازع شرعية التمثيل بين مختلف مكونات المشهد القضائي. فقد تصارع على صفة تمثيل القضاة جمعية قضاة تستند لشرعية نضالية وتاريخية، ونقابة قضاة وإتحاد قضاة إداريين يعتبران نفسيهما مكسباً ثورياً. وكان سلاح الصراع تبادل الاتهامات والتشكيك في التمثيلية. أما حلبة الصراع، فقد تمددت من المحاكم إلى المنابر الإعلامية وكل أرض وطأتها قدم قاض. وانتظر الجميع أن ينجح القضاة في جعل "ضاحية باردو" الواقعة قرب العاصمة التونسية وحيث مقر المجلس التأسيسي، حلبة صراع جديدة. ولم يطل الانتظار. وكان الحدث يوم فاجأت رئيسة المحكمة الإدارية، السيدة حبيبة المشيشي، التي كانت مصحوبة بوفد يمثل محكمتها في طالع عرضها لمقترحاتها، أعضاء اللجنة بلوم بلغ حد التقريع وجه اليهم على خلفية استقبالهم لوفد يمثل إتحاد القضاة الإداريين (الهيكل النقابي الذي اسسه قضاة من المحكمة الإدارية) لكونها تعتبرالإتحاد المذكور "هيئة فاقدة للشرعية الانتخابية أو التمثيلية"
إلا أن رد رئيس اللجنة الأستاذ محمد فاضل موسى على اعتراض رئيسة المحكمة الإدارية والذي كان جازماً في تأكيده على أن اعضاء لجنته سيستمعون إلى جميع الآراء لأن ذلك في تقديرهم مهّم من أجل صياغة نص دستوري ذي قيمة يضبط بشكل منهجي باب السلطة القضائية في الدستور المرتقب. واستدعاء اللجنة لممثلي نقابة القضاة وجمعية القضاة في نفس اليوم رغم تبادل التشكيك بينهم جعل صراع الاقصاء ينتهي لفائدة صراع البرامج، فيما قد يعد بداية حقيقية لقبول القضاة رغما عنهم بحقهم في التعددية النقابية وبحق الاختلاف فيما بينهم ونجاحاً للجنة في هذا الشأن.
وتوقع البعض أن تكون الورقات التي قدمتها هياكل القضاة متضاربة تضارب الهياكل، متباعدة تباعدها، إلا أن الحاصل خيب الفرقة وكشف ما يشبه الوحدة في الأفكار والتمشي مع اختلافات في التفاصيل تصنع التميز وتكسر الرتابة وتبين أن الاجتهاد والرغبة في الاصلاح اخذت هذه المرة طابعاً جامعاً. والدعوة لنقاش اصلاح القضاء سمح للقضاة بوضع لبنته إلا أن مسألة الاصلاح وآلياتها لا يمكنهم احتكار فتواها.
وهكذا، حملت رئيسة نقابة القضاة السيدة روضة العبيدي لأعضاء المجلس التأسيسي ورقتين تخص الأولى المبادئ التي تقدر النقابة أنه يتعين تضمينها بدستور الجمهورية التونسية الثانية. فيما خصصت الثانية للنصوص القانونية التي يتجه إصدارها لتنظيم مجلس القضاء العدلي الأعلى. وكانت رئيسة جمعية القضاة السيدة كلثوم كنو قد تسلحت في لقائها مع أعضاء اللجنة بلائحة المؤتمر العاشر الخارق للعادة لجمعيتها والتي تضمنت ورقة حول الحماية الدستورية لاستقلال القضاء وبتصور للجنة المؤقتة لإدارة القضاء العدلي. ويتضح من مراجعة المقترحات الدستورية التي تقدمت بها الهيئتان (الجمعية والنقابة) أنها اقتصرت على المبادئ المتعلقة بالقضاء في فروعه العدلية والادارية والمالية دون أن تتعرض لما يتعلق بالمحكمة الادارية ودائرة المحاسبات في خصوصياتها، كما أحجم كلا المشروعين عن اقتراح نصوص دستورية تخص القضاء الإداري والمالي.
وفي محاولة لسد الثغرة في هذا المجال، تقدم قضاة المحكمة الادارية المحسوبون على الجمعية والذين تتزعمهم رئيسة المحكمة وقضاة دائرة المحاسبات الذين آثروا النأي بانفسهم عن آتون الانقسامات بمشاريع مستقلة، فيما تقدم إتحاد القضاة الاداريين بوصفه هيكلاً نقابياً بمشروعه. وما يحسب لعموم الفرقاء الذين تقدموا بمشاريع النصوص الدستورية أنهم التزموا بشكل واضح بالمبادئ الدولية لاستقلال القضاء، فقد اتحدت المشاريع التي قدمت رغم الفرقة المعلنة في المطالبة بالتنصيص على القضاء كسلطة من سلط الدولة وعلى استقلالية القضاة في احكامهم. كما أكدت على الضمانات المقررة فقهاً لضمان تلك الاستقلالية وأهمها مبدأي عدم نقلة القاضي دون رضاه وعدم قابلية القاضي للعزل. ويعود الفضل في الاتفاق على ضرورة تضمن الدستور لمبادئ الاستقلالية لموروث ثقافي استبطنه القضاة التونسيون. فجمعية القضاة الشبان التي نشطت خلال ثمانينيات القرن الماضي ومن بعدها وريثتها جمعية القضاة التونسيين، تمكنتا من توعية السواد الاعظم من القضاة بضرورة تبني مبادئ استقلالية القضاء المقررة دولياً لتحقيق الشروط الواجبة موضوعياً لذلك كما تشهد على ذلك بيانات الهيكلين ولوائحهما. وهو ما يكشف عن مفارقة قد تبدو غريبة نوعاً ما، فالقضاء التونسي الذي يجمع الملاحظون على ضعف أدائه إبان الحقبة الاستبدادية فيما تعلق بالأحكام التي أصدرتها محاكمه تميز في نشاط هياكله بحس استقلالي تقدمي منفتح وشديد القدرة على ممارسة النقد الذاتي انتهى إلى تشخيص علل القضاء واقتراح الاستطبابات الواجبة له. وهنا يتبين أن جمعية القضاة ونقابة القضاة وإتحاد القضاة الاداريين وقضاة المحكمة الادارية وقضاة دائرة المحاسبات حرصوا في صياغتهم لمقترحاتهم على إعلان وفائهم لمطالب اضحت جزءاً من ادبيات الحركة النقابية القضائية. والواقع أن إجماع القضاة على وجوب تضمن الدستور للمبادئ الاساسية بشأن استقلال السلطة القضائية التي اعتمدتها الجمعية العامة للامم المتحدة في قرارها 40/32، المؤرخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1985 لا يشكل عزفاً خاصاً بهم في ساحة الدستور المرتقب وإنما يلتقي مع إجماع كافة مكونات المشهد السياسي للمجلس الوطني التأسيسي.
ويفترض بالتالي أن لا يكون اعتماد المبادئ المذكورة من المسائل الخلافية عند الصياغة النهائية لمشروع دستور الجمهورية التونسية وإنما هي مسألة وفاقية أجمع التونسيون على اعتبارها بوابة بناء دولة القانون. وبالتالي فإن مقترحات القضاة المتمثلة في إرساء مبدأي عدم قابلية القاضي للعزل وعدم نقلة القاضي بدون رضاه يرجح أن تكون الاستجابة لها من باب المسلمات. وهنا يتعين انتظار ما يعقب ذلك لمعرفة كيفية التعاطي المستقبلي مع المكسب المذكور. فوزارة العدل ومن خلفها السلطة السياسية التي اعتادت استعمال نقلة القاضي من مركز عمله كعقوبة مقنعة ووسيلة ضغط تضمن لها خضوع القضاة في أعمالهم لاملاءاتها مخافة نقل تؤثر على استقرارهم الاسري. والقضاة الضالعون في الانحرافات المالية والاخلاقية والمهنية الذين وجد بعضهم في العقوبات المقنعة حماية لهم بما أنها تحفظ لهم مواصلة فسادهم والتستر عليه في صورة افتضاح أمرهم بنقل غير معللة أو إلزام بالاستقالة. ويصعب تصور تعاطي متحكم الأمس ومحمي السيد مع المستجد متى تحقق وكيفية بحثهم عن وسائل وبدائل تمكنهم من حماية مواقعهم وسلطاتهم. وتتعين الإشارة في هذا الإطار لكون وزارة العدل لا زالت تباشر حركات تنقلات للقضاة لا تستجيب للمعايير التي وعد بها وذلك على الرغم من تصريح مسؤوليها بالتزامهم العمل من أجل تطوير القضاء بما يجعله مستجيباً لهذه المعايير.
وقد عدت هذه التنقلات التي تصدر خارج إطار الحركة القضائية وبقرار من وزير العدل في جزء هام منها عقوبات نقل مقنعة. وهو ما يعني أن إدارة وزارة العدل ما زالت ترفض التنازل عن سلاح النقل كأداة ترتب بها البيت القضائي، - بما يفيد أن- نقلة القضاة كعقوبة سيستمر إعمالها إلى حين الصدور الفعلي للنص الدستوري. ويؤكد الملاحظون على أن إرساء المبدأين يجب أن يقترن بالمحاسبة أي أن محاسبة شفافة للقضاة الذين تورطوا في فساد مالي وإداري يجب أن تسبق وتقترن مع إرساء المبدأين لكي لا تتحول شروط الاستقلالية إلى أدوات حماية لسوس ينخر الجسد القضائي من الداخل وعدم علاجه قد يفضي إلى بروز مافيا قضائية اعتادت الفساد ونزع عنها الخوف. فمن اعتادوا الارتشاء والفساد الأخلاقي ومن كانت بهم نوازع زيغ عن السلوك القضائي المستقيم وكانوا يخافون العقوبة والنقل فلا يجاهرون بفسادهم ويتحرون في ممارسته الستر، قد يجدون أنفسهم في الغد المنظور متمتعين بحماية المبادئ دون محاسبة حقيقية أو تحميل جدي للمسؤوليات بما يمكنهم من المجاهرة بفسادهم مع تمتعهم بالانتماء لسلطة قضائية عصية على المساءلة .
وتمسك القضاة بمختلف طيفهم بمطلب قد يبدو شكلياً واصطلاحياً يتمثل في وجوب التنصيص صلب الدستور بصريح عبارة سلطة عند التطرق للقضاء تساعد القراءة التاريخية على فهمه. فدستور الجمهورية التونسية الأولى الذي صدر في شهر جوان 1959 تراجع واضعوه عن وصف القضاء بالسلطة بعد نقاشات طويلة دافع خلالها أنصار الزعيم الحبيب بورقيبة على اعتبار القضاء يتنزل في الدولة منزلة دون السلطة وهو ما كشف منذ بدايات تأسيس الجمهورية الأولى إن الاصطلاح ليس مجرد صياغة لغوية بل هو تصور كامل يقوم على تجيير القانون لجعل القضاء هيكلاً ادارياً يخضع للحاكم. فما أتى بدستور الجمهورية الأولى من تجاهل للقضاء كسلطة مقابل إعلان عن استقلال فردي لقضاة عند الحكم انتهى إلى إرساء منظومة جعلت القضاء فرعاً تابعاً للسلطة التنفيذية. والقضاة في إصرارهم على التصريح بمؤسستهم كسلطة يرومون القطع الفعلي والنفسي مع تاريخ من التبعية للسلطة التنفيذية والطبقة الحاكمة والتأسيس لمستقبل يكونون قادرين فيه على التعامل بندية مع بقية سلط الدولة تحقيقاً لدولة القانون وتجسيداً لمقولات الثورة التي كان شعارها الشعبي المحاسبة لـ"عصابة السراق" ولن تتحقق هذه المحاسبة إلا بقضاء مؤسس مستقل.
وبالتوازي مع حديث الدستور كانت مسألة مجالس القضاء العليا بدورها موضوع تطارح مشاريع بين جمعية القضاة ورئاسة المحكمة الإدارية من جهة ونقابة القضاة واتحاد القضاة الاداريين من جهة أخرى. ولم تخل المسألة من تجاذبات: فبعد أن انتهى نواب المجلس الوطني التأسيسي بقانونهم التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية إلى صياغة التزام قانوني باصدار قانون أساسي ينشئ بموجبه هيئة وقتية للإشراف على القضاء العدلي تحل محل المجلس الأعلى للقضاء مع ضبط تركيبتها وصلاحياتها وسن نصوص تشريعية تكفل إعادة تنظيم القضاء وإعادة هيكلة المجالس القضائية العليا العدلية والادارية والمالية وضبط أسس إصلاح المنظومة القضائية. ويستخلص من هذا التوجه أن مسألة المجالس القضائية العليا أضحت محكومة بمسارات متباينة فالقضاء الإداري والمالي ترك أمر إعادة هيكلة مجالسهما إلى ما بعد صدور قانون تأسيسي يعيد الهيكلة. ورحبت جمعية القضاة بهذا الطرح فيما اعتبر إتحاد القضاة الاداريين ومن خلفه نقابة القضاة أن تأجيل إصلاح المجلس الأعلى للمحكمة الادارية يتعارض مع استقلالية هذه المحكمة لكون المجلس يرأسه وفق القانون الحالي رئيس الحكومة أي رئيس السلطة التنفيذية وهو ما يكشف عن رغبة في مواصلة وضع اليد على دواليب التعيين في الخطط القضائية بالمحكمة الادارية وخصوصاً الإصرار على احتكار الحكومة لصلاحية اختيار وتعيين رئيس هذه المحكمة دون رقابة أو ضابط موضوعي لأهمية صلاحياته خصوصاً وأنه من يعين القضايا ويوزعها على الدوائر الحكمية. وترجم الاختلاف في التقييم على الأرض صراعاً كانت بدايته الحركة الاحتجاجية التي قادتها نقابة القضاة ضد قرار السلطة التنفيذية تعيين رئيسة المحكمة الادارية بمقولة أن التعيين تم وفق رؤية تسلطية خصوصا وأن الحكومة لم تبادر إلى تحديد قواعد موضوعية تقوم على جعل رئاسة المحكمة حكراً على قضاتها وتعتد بالاقدمية كقاعدة موضوعية في الترشح لها، فيما حشدت جمعية القضاة انصارها لتأييد التغيير بمقولة أنه فعل ثوري خصوصاً وقد انتهى لتقلد قاضية لهذا المنصب. وبلغت حرب المواقع في المحكمة الإدارية ذروتها بعد ان امتنع 9 قضاة من منخرطي إتحاد القضاة عن المشاركة في فعاليات الدورة 74 للمجلس الأعلى للمحكمة الادارية وذلك احتجاجاً على عدم إقرار مبدأ انتخاب المجلس الأعلى للمحكمة الإدارية وتواصل تبعيته للسلطة التنفيذية وهو أمر أدانه اأصار جمعية القضاة في المحكمة الإدارية وتحول الامر إلى حرب بيانات بين الشقين.
وبعيداً عن أجواء التجاذب هذه والتي قد تكون في جوهرها صراعاً حول التمثيلية أي صراع استقطاب، فقد بادر قضاة النقابة وقضاة الجمعية إلى تقديم تصورات تفصيلية كانت مشاريع قوانين لبيان تصورهم للهيئة المؤقتة التي ستسند لها مسؤولية الاشراف على القضاء العدلي وتكشف في ذات الحين تصوراتهما لتركيبة مجالس القضاء العدلي في صيغتها النهائية. وقد تطابق المشروعان في أمرين هامين :أولهما أن يكون كل أعضاء الهيئة منتخبين وثانيهما أن يكون هيكلاً مغلقاً لا يؤمه غير القضاة. إن انتخاب أعضاء الهيئة التي يفترض أن تعد الحركة القضائية للسنة الجارية وهي ذات الهيئة التي تشرف على كل ما يتعلق بالمسارات المهنية للقضاة العدليين سيعد بكل المقاييس الحدث الأكثر ثورية بعد عقود من مجالس قضاء لم يشعر القضاة يوما أنه يحق لهم تخير أي من أعضائها رغم ديمقراطية شكلية كانت تسمح لهم نظرياً بانتخاب ستة من أعضائها الثمانية عشر فقد منعتهم سطوة إدارة القضاء التي احترفت تزوير الانتخابات المذكورة وتعمدت عدم توفير شروط الشفافية فيها من الممارسة الفعلية لذلك.
وهنا كان إجماع الهيكلين على جعل المجلس الاعلى للقضاء مؤسسة لا يدخلها من لم ينتخب تعبير عن رغبة في القطع الكامل مع الماضي رغم أن ذلك لم يمنع نقابة القضاة من التعامل بواقعية والإقرار بضرورة تطعيم الهيئة بقضاة من غير المنتخبين هم أساسا رئيس المحكمة التعقيب ومدير المصالح العدلية في تصور براغماتي سنده مسك إدارة المصالح العدلية لكافة المعطيات التي تتعلق بالمسارات المهنية للقضاة واطلاعها على الحاجيات الحقيقية للمحاكم. وفي موازاة اعتماد مبدأ الانتخاب، بادرت جمعية القضاة في مشروعها المقترح ووثائقها على طرح مسألة وجوب إقصاء فئة من القضاة (كل قاض كان عضواً في أحد مجالس القضاء السابقة أو ناشد الرئيس السابق الترشح للإنتخابات الرئاسية 2014 أو نشط في هياكل حزب التجمع الدستوري أو شارك في محاكمات الرأي وحظي بترقية كجزاء له على ذلك) من المشاركة في العملية الاإنتخابية كمرشحين على اعتبار أنهم غير مؤهلين لذلك مع حفظ حقوقهم كناخبين. وقد رأت أن هذا الإقصاء مدخل ضروري لقبولها باعتماد الانتخابات في انتقاء أعلى هيئة قضائية إدارية مستقلة.
ويبدو للوهلة الاولى موقف جمعية القضاة منتصراً لمبادئ الاستقلالية ويستلهم روح الثورة إلا أن الدراسة المتأنية تكشف لنا أن إقصاء قضاة عن الترشح بسبب إخلالهم بواجبات مهنية سواء كان ذلك عبر ممارستهم لنشاط حزبي بالحزب الحاكم قبل الثورة أو بغيره من الأحزاب بعدها أو قبلها بما أخرجهم عن حيادهم السياسي أو تدليسهم أحكامهم بمقابل من الأخطاء المهنية الفادحة التي يجب أن يعقبها تنحيتهم عن القضاء لا مجرد التصريح بعدم أهليتهم في الترشح للانتخابات. فالوظيفة الأسمى للقاضي ليست الترشح لإدارة مرفق القضاء وإنما فصل الخصومات وأي تصريح بعدم نزاهة لا يجب أن ينتهي بمجرد منع من الترشح. وهنا كان يفترض أن يكون أحد أمرين اولهما اشتراط تطهير القضاء من العناصر الفاسدة قبل أي إصلاح وثانيهما التعويل والثقة في الاختيار الديمقراطي للقضاة وفي رغبتهم في الإصلاح. ويبدو الأمر الثاني أكثر رجحاناً بدليل انتخاب قضاة لمرشحين يحسبون على التيار الاستقلالي في انتخابات جمعية القضاة، ولاستحالة القول بإرجاء الإصلاح بعلة وجود فساد يجب التخلص منه مسبقاً. وإذا وضعنا هذه الاعتبارات جانباً، فان التوافق على وجوب الانتخاب يشكل عامل ضغط على المشهد السياسي، فخلال مداولات المجلس التأسيسي في ذات الموضوع، كان برز اتجاه في صفوف الاحزاب الحاكمة استند لما ادعى أنه موقف جمعية القضاة، ومفاده أن القضاة لا يمكنهم اختيار الهيئة المكلفة بالاشراف على شؤونهم بشكل ديمقراطي لأن الانتخابات تحمي الفساد. وهو موقف اعتبر ترجمة لرغبة في التحكم في القضاء من قبل الحكومة خلال المرحلة الانتقالية. وتوافق القضاة على رفض التعيين كأسلوب لاختيار أعضاء الهيئة المؤقتة للإشراف على القضاء إنما يقطع الطريق بشكل نهائي أمام ادعاءات مماثلة. وما توافق عليه القضاة بشأن تكوين الهيكل من القضاة حصراً، فلا يشمل ممثلين عن عمادة المحامين أو الأساتذة الجامعيين ولا ممثلين عن نواب الشعب، يبدو بالواقع موقفاً انعزالياً منهم لا يحقق التفاعل الواجب بين القضاء وامتداده الطبيعي، هذا الامتداد الحاضن والشريك الذي يفترض أن يساند حماية استقلاليته. وموقف هياكل القضاة الذي تناسى أن استقلالية القضاء لم تكن في أي يوم من الأيام معركة القضاة بل كانت دوماً معركة الأسرة القضائية الكبرى يعده البعض من المواقف الانتخابية أي أنه خطاب يقصد به عموم القضاة ويقدم لهم ما يطلبونه لا ما يحتاجونه فعلاً.
فتأسيس مجلس أعلى او مجالس عليا للقضاء تمارس ولاية كاملة لا منقوصة على أعمال إدارة القضاء وتتوفر لها الامكانيات المادية والبشرية لتحقيق ذلك لن يتحقق للقضاء إلا متى كان المجلس المذكور عنوان ديمقراطية لا مدخلا لدكتاتورية فئوية. وعموماً، فإنه يرجح أن لا يقبل صناع القانون بانفراد القضاة بالمجلس الاعلى للقضاء وهذا ما قد يكون موضوع النقاش الأهم بمناسبة صياغة القانون التأسيسي للمجالس العليا للقضاء في صيغتها النهائية بين الساسة من جهة والقضاة من جهة أخرى على أن تركيبة الهيئة المؤقتة لإدارة القضاء العدلي حسم أمر تركيبتها بعد أن بادر نواب المجلس الوطني التاسيسي لتأكيد أنها ستقتصر على القضاة دون سواهم. وينتظر ايضاً أن لا ينزع عن مجالس القضاء العليا صيغة الجمع بعد أن أبدى قضاة المحكمة الإدارية تمسكهم باستقلالية مجلسهم مخافة أن تغيب مشاغلهم إذا ما توحدت المجالس القضائية أمام قدرة القضاة العدليين على سرقة الاهتمام بالنظر لكثر متطلباتهم، وبعد أن عجزت جمعية القضاة التي اعتادت جمع القضاة من مختلف أصنافهم على صياغة تصورات قد تساعد على إقناع القضاة قبل غيرهم بأفضلية توحيد مجالس القضاة .وهنا ينتظر أن يستمر تواجد ثلاث مجالس عليا للقضاء الأول للقضاء العدلي والثاني للقضاء الإداري والثالث للقضاء المالي كل منها مستقل عن الاخر هيكلياً و وظيفياً رغم أن المصلحة العامة التي تفترض الحد من تضخم الهياكل الإدارية للتحكم في نفقات التصرف فيها تستوجب النظر في صيغ جمع بين المجالس مع احترام للخصوصيات.
وقد يتوجب على الأسرة القضائية الموسعة تطوير مقترحاتها بشأن هياكل القضاة بعيداً عن الحسابات القطاعية والانتخابية: فالمفترض أن يبدي المحامون والجامعيون تصورات تكمل وتتكامل مع مقترحات القضاة التي يجب أن يتناولوها بالدرس لغاية كشف مكامن الخلل بها وتثمين المكتسبات التي تبشر بها. فما قد لا يجرؤ القضاة على المطالبة به مخافة المس بامتيازاتهم أو ما يعتقدون أنه حق لهم أو تجنباً لاتهامهم بالانتهازية ينتظر أن يطالب بها سواهم. ومن الأمثلة على الخلل في هذا المجال أن مشروع جمعية القضاة وأطروحات نقابة القضاة تتعامل مع إلحاق القضاة بالادارات ودواوين الوزراء دون رفض أو طرح لمدى تعارضها مع متطلبات الاستقلالية، فيما إن الإلحاق أو ما يصطلح على تسميته بالندب قد يشكل مستقبلا بوابة التداخل السري بين القضاة الطامحين للتسيس والسياسة الطامحة لتوظيف القضاء. كما أن بعض مطالب القضاة التي قد تتصدى لها الحكومة بدعوى عدم توفر الموارد المالية من قبيل اعتماد مبدأ الترقية الآلية للقضاة الذي يجعل ترقية القاضي من رتبة قضائية إلى أخرى يعتد فيه بأقدمية محددة قانوناً وإفرادهم بسلم أجور مستقل ومتحرك يحقق شروط استقلاليتهم المالية يتعين تعميق الوعي الجماعي به ليصبح مطلباً شعبياً لا مجرد مطلب فئوي للقضاة كما كان يصرح بهذا حكام البلاد قبل الثورة.
[This article originally appeared in Legal Agenda`s April 2012]